إذا كانت المدرسة تعتبر المركز الأوّل والأهمّ لتعليم الأطفال وتنشئتهم، فهذه القاعدة لا تنطبق على أولئك الذين تدفعهم الظروف قصرا إلى مغادرة بلادهم، وهذا هو حال كثير من السوريين اليوم. فأطفال سوريا يتلقون الدروس من الأصوات التي توقظهم في ظلام ليلة يخرجون فيها من منازلهم، و من ضوء قمر يرافقهم في رحلتهم نحو المجهول، ومن منظمات دولية تستقبلهم في مكان إقامتهم الجديد. من هؤلاء المعلمين الجدد يتلقّى أطفال سوريا دروسا عشوائية – إيجابية وسلبية – دون إدارة أو متابعة. فهذه ترى جارها في المخيم يخرج كل ليلة جمعة ليسرق معونات من خيم قريبة. وهذا يذهب ليلعب مع أصدقائه فيعود إلى خيمته ليجد أباه يبكي خبر سجن أخيه دون مبرر. وهذه ترتاد المدرسة في عاصمة عربية غريبة عنها وتقع ضحيّة اتهامات جائرة من زميلات لا يعرفن عنها سوى أنّها سوريّة.
مع مثل هذه التجارب يأتي سؤال مهم: أي دور يمكن أن يلعبه التعليم الرسمي وغير الرسمي، التقليدي وغير التقليدي في تنشئة هؤلاء الأطفال بشكل سليم؟
خلال الفترة التي قضيتها في الأردن العام الماضي تعاونت مع فريق مهتم بهذا السؤال وخططنا لإنشاء مشروع موجّه نحو مساعدة أطفال من عدة جنسيات يسكنون في مدينة الزرقاء وكثير منهم سوريون. وقد تبلور مشروعنا حول أهداف تربويّة كثيرة منها:
- أن يتعلم الأطفال من خلال التجربة وليس فقط من خلال دروس موجودة في كتب.
- أن يتفكر الأطفال بشكل حر بعيد عن التلقين، فلا نعطيهم أسئلة وأجوبة يكررونها لنا، بل نترك لهم الفرصة ليصوغوا أسئلة ويحاولوا الإجابة عليها بأنفسهم.
- أن يختاروا أسلوب النقاش وليس العنف لحل مشاكلهم.
وقد عملنا أسبوعيا بين شهري فبراير ومايو ٢٠١٤ في مركز التوعية والإرشاد الأسري في الزرقاء مع مجموعة مكونة من خمسة وعشرين طفلاً تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثانية عشر.
عندما كنا نخطط للمشروع لم نكن متمسكين بفكرة معينة أو شكل معين للنشاطات التي سنجريها. ولكن بعد تفكير وبحث عن مشاريع سابقة وجدنا فكرة مناسبة يمكن اقتراحها على الأطفال. فقد كان متوفراً لنا في المركز غرفتين كبيرتين خاليتين باستثناء بعض الكراسي والطاولات المدورة، فماذا لو جعلنا هاتين الغرفتين “أرضاً” يستطيع الأطفال أن يتحكموا بها كما يشاؤون ليؤسسوا مدينة جديدة لهم؟
وبالفعل، في اليوم الأوّل من لقائنا مع الأطفال طرحنا عليهم فكرة إنشاء مدينتهم الخاصّة فإذا بهم يسارعون ويتسابقون في اقتراح عناصر تلك المدينة الخياليّة: “نريد شركة لبناء العمارات” و”نحتاج إلى مصرف ليطبع النقود” و “يلزمنا شرطي ليفرض القوانين”. انضم كل طفل إلى مجموعته المفضلة وباشروا العمل. وخلال الأسابيع المقبلة، كانت المجموعات تخطط، تصنع وتروج لبضائعها، وتبيع وتشتري دون أن يخلو الأمر من نشوء النزاعات بين بعضهم البعض طبعا.
في هذا المقال، سأسرد عليكم ثلاث قصص تعكس جوهر تجربة الأطفال كمؤسسي مدينة جديدة ضمن إطار تعليمي وما اكتسبناه معا من مهارات ومعارف حياتيّة.
فارس الشرطيّ: ظالم أم مظلوم
استخدم فارس كراسٍ وشريطا لاصقا لصنع سجن للمدينة. وعلى الفور بدأ يزجّ زملاءه في الحبس دون أسباب منطقية أو شرعيّة. أتى أحد المسجونين وشكى لي تصرف زميله فذهبت إلى فارس وطلبت منه أن يكتب لي تقريرا كلما أراد أن يرسل أي مواطن إلى السجن وهكذا يمكنه أن يتواجه والمتهم في المحكمة. أردت حثّ فارس على التفكير في ما يفعل وتنبيهه على موضوع العدل، وقد أثمر هذا الأسلوب بأن توقف فارس عن تصرفه. بل أثناء لقائنا الأسبوعي التالي تفاجأنا به يدور على المجموعات بورقة وقلم ويجري مقابلة مع كل مجموعة ليكتب عن دورها وإسهامها في حياة مواطني المدينة. فعندما استخدمنا أسلوباً بسيطاً وهو الطلب من الطفل كتابة ما يريد أن يفعل وبالتالي التفكر به أبدع فارس وفكر بطريقة إيجابية ليتمكن من القيام بدوره كمدير الشرطة.
العقد
كانت مجموعة الورشة تقوم بصناعة احتياجات سكان المدينة، ففي أحد الأيام صنعت الورشة طائرةً من ورق مقوى بطلب من الطيار، ولكنهم لم يتفقوا على أجر قبل بدء العمل. وبعد انتهاء الورشة من العمل، لم يرضَ الطيار بالأجر الذي طلبته الورشة. اختلف الطيار مع صاحب الورشة منيب و لم يتم البيع، فشكى لي منيب الوضع. بعد استماعي للقصة من وجهة نظره اقترحت عليه أن يكتب عن تجربته في دفتره الخاص ففعل وشارك ما كتبه مع المجموعة آخر النهار. استمعت إليه المجموعة واقترح طفل من سكان المدينة أنه في المستقبل عليهم الاتفاق على الأجر المناسب قبل بدء أي عمل، وقرر الأطفال أنه ينبغي كتابة هذا الاتفاق وتوقيعه من الطرفين. وضح أحد الكبار أن هذا ما يسمى بالعقد، وفهم الأطفال أهميته في العمليّة التجاريّة دون قراءة ذلك في كتاب، بل من خلال التجربة والتفكر والنقاش الجماعي.
النقود والبنك
في بداية المشروع قرر موظفي المصرف أن عملة المدينة هي الـ”ين”، فطبعوا نقودا ووقعت وزيرة المالية عليها لكي تحميها من التزوير.
فتح المصرف حسابًا لكل فرد من سكان المدينة، وبعدما استلم كل طفل خمسة وعشرين ينّاً، كان عليه أن يقرر كم يُبقي معه وكم يضع في حسابه. قرر تقريبا كل الأطفال إبقاء كل أو معظم المبلغ معهم. بعد أقل من ساعة جاءني ولد شديد الاضطراب والقلق وأخبرني أن بعض نقوده قد ضاعت ولا يدري كيف. وجاء طفل آخر يتهم زميله بالسرقة. عجبت من الفوضى التي اجتاحت الغرفة خلال دقائق وشعرت بالارتباك نوعا ما. عندها أحضر لي أحد الأولاد نقودا قد وجدها مفقودة على الأرض يريد أن ترجع إلى صاحبها، فخطرت لي فكرة وجمعت الأطفال مجددا في دائرة واسترددت جميع النقود وأعدت توزيعها كي يكون لكل طفل خمسة وعشرين ين من جديد. بعد نقاش عن الذي قد جرى أعطينا الأطفال فرصة ليختاروا كم من النقود يُبقون معهم وكم يضعون في المصرف فحصل عكس ما جرى في أول تجربة. لماذا؟ لأنّهخم وإن لم يقرؤوا عن فوائد إبقاء النقود في المصرف شاهدوها وعايشوها بأنفسهم.
حصلت هذه القصص الثلاثة نتيجة غياب تخطيط جازم، وكان من المستحيل أن نتوقع حدوثها كما جرى. فلعلّ الأدوار انقلبت في نهاية المطاف وعلّمتنا هذه القصص كقائمين على المشروع أكثر مما علّمت الأطفال. فقد تعلّمنا أهمية إيجاد التوازن بين القوانين والضوابط وبين الحرية التي تعطى للأطفال ضمن مشروع تعليمي. والحقيقة أنّه لو خلى المشروع من الحريّة الفرديّة فنأمرالأطفال بفعل الأشياء حسب إرادتنا فقط أو لو كان الأمر خاليا كليا من الضوابط، في كلا الحالتين يخلو المشروع من التحدي لينتهي التعليم والإبداع.
للمزيد من المعلومات حول مشروع المدينة زوروا موقعنا www.buildingourcity.com ولو قمتم بمشاريع مشابهة شاركونا تجاربكم من خلال التواصل معنا على الموقع ذاته.